الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وبعد:
فقد فضل الله سبحانه بعض الرسل على بعض، ففضل أولي العزم على سائر الرسل، وفضل على أولي العزم آخرهم وخاتمهم، والكل تحت لوائه يوم القيامة، واختصه سبحانه وتعالى بخصائص لم يختص بها غيره من المرسلين، كذلك اختصه صلوات الله وسلامه عليه بخصائص دون سائر الأمة، ونستعرض في هذه السطور بإذن الله تعالى خصائصه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء أولاً ثم نتبعها بخصائصه دون سائر الأمة ثانيًا.
فضائل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رُجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ). [البخاري: 335].
يقول ابن حجر: وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ( فضلت على الأنبياء بست ). فذكر الخمس المذكورة إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: ( أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبوة )، فتكون سبع خصال في الحديثين.
ولمسلم عن حذيفة -رضي الله عنه-: ( فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف لملائكة ). وعند النسائي: ( وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش )، فصارت الخصال تسعًا، ولأحمد عن علي: ( أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء الله: أعطيت مفاتح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم ). فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ( فضلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ).
وله من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: ( فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم، ونسيت الأخرى فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع ). [فتح الباري 1/523].
1- نُصرت بالرعب مسيرة شهر:
قوله: ( نصرت بالرعب ): يقول ابن حجر: وفي رواية: ( ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر ). فالظاهر اختصاصه به مطلقًا، وإنما جعل الغاية شهرًا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر من ذلك، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال. [فتح الباري 1/521].
ويقول ابن حجر أيضًا: وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك كالشام والعراق واليمن ومصر ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه، وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو ما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. [فتح الباري 6/149].
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليهم - وهم بإيلياء - ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فقد فضل الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم على كل الأنبياء بأن جَنَّد معه الرعب وجعله من الجنود التي تعمل في صفه، ويعمل عمله في تخذيل الأعداء وهزيمتهم لقوله تعالى:﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾[آل عمران: 151]، وقوله تعالى:﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾[الأنفال: 12].وهذه صورة حية لنصرة الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرعب، قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾[الحشر: 2]، يقول ابن كثير: يعني يهود بني النضير، كان النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليهم ليعينوه على دفع دية قتيلين من بني عامر قتلهما الصحابي - عمرو بن أمية - رضي الله عنه - وهو لا يعرف أن لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أمان، فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار، فصعد عمر بن جحاش بن كعب ليلقي عليه صخرة، وأطلع الله رسوله على ما أرادوا فقام وخرج إلى المدينة، ثم سار إليهم حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله بقطع النخيل والتحريق فيها وظل الحصار ستة أيام فقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح وكان الرجل منهم يهدم خشب بيته فيضعه على ظهر بعيره، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا أموالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت له خالصة ونزل فيهم سورة الحشر. [ابن كثير 4/437 بتصرف].
2- وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا:
يقول ابن حجر: أي موضع سجود، وقيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا لأن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة، وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقَّنون طهارته بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم في جميع الأرض إلا ما تيقنوا نجاسته، والأظهر أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع لحديث: ( وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم ). وحديث: ( ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه )، وأن التيمم جائز بجميع الأرض لحديث: ( وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا ). [فتح الباري 1/521، 522 بتصرف].
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك ). [صحيح الإرواء 153]. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد الماء وجد الأرض طهورًا ومسجدًا ).